في رحاب سورة الفلق – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ • وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ • وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾
حين يتأمل الإنسان في طبيعة الزمن، يجد أن الله تعالى خلق الليل والنهار متكاملَين، لا يصف أحدهما بالخير المطلق ولا بالشر المطلق. فالليل ظرف زماني، وليس الشر فيه لأنه “ليل”، بل في ما يحتويه من أفعال. فكما أن في الليل من يُحييه بالصلاة والدعاء والمناجاة، فإن فيه من يُمارس الفجور والمعاصي والاعتداءات.
فمن هنا نفهم أن قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾
لا يعني أن الليل شر، بل أن فيه مظروفات قد تكون شرًّا، كالسرقة، والقتل، والسحر، والحسد، والانحرافات، التي تتكاثر عادة تحت جنح الظلام.
شرح الأیات:
﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾
الغاسق: هو الليل إذا أظلم، و**”وقب”** أي دخل وتمكن.
الاستعاذة هنا من شر ما يحصل في الظلام حين تُغلق الأبواب وتُخفى الجرائم والمعاصي.
وليس الليل في ذاته شرًا، إنما ما يقع فيه من اعتداءات أو مكائد خفية، سواء من إنس أو جن.
﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾
إشارة إلى السحرة (غالبًا نساء كما جاء في اللغة)، ممن يعقدن الخيوط وينفثن فيها تعاويذ.
والتعبير القرآني لم يقر بفعالية السحر على المؤمنين، بل هو تحذير من محاولة الإضرار بهم، لأن السحر لا يؤثر إلا بإذن الله، ولا يُصيب المؤمن المتيقن، بل يصيب الضعيف قلبًا.
﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾
الحسد داء خفي، يُشعل الحقد في النفوس ويدفع بصاحبه للعدوان والسعي في زوال نعمة الآخرين.
والاستعاذة هنا ليست من وجود الحسد فقط، بل عند تفعيله وتحوّله إلى فعل وسلوك عدائي.
الدروس المستفادة من سورة الفلق
الشر لا يُقابل بالقوة فقط بل بالتحصين الإيماني. فالله يدعونا إلى التعوذ والاستعاذة، أي الاحتماء به جل وعلا.
الليل ليس شرًا بذاته، إنما البيئة التي تفتقر للنور والهدى هي التي تنتج الشرور.
الحسد أخطر من السحر، لأنه داء يجتمع فيه ضعف القلب، وفساد النفس، وغياب الورع.
الوقاية الروحية مطلب قرآني دائم، تبدأ بالذكر، والدعاء، والاستعاذة، وتنتهي بإصلاح النفس.
سورة الفلق سلاح يومي للمؤمنين ضد الشرور الخفية، ولذلك جاء في الروايات: “ما تعوّذ المتعوذون بمثلهما.”
وفی الختام:
إن سورة الفلق تضع أمامنا خريطة حماية إلهية شاملة، تحفظ الإنسان من شرور لا تُرى بالعين المجردة: من حسدٍ، وسحرٍ، وعدوانٍ مظلم. وهي دعوة لتجديد العلاقة مع الله، والتوكل عليه، واتخاذه حصنًا وملجأ في كل حين. وإذا أحكم الإنسان علاقته بالله، فلا يخشى من الغاسق إذا وقب، ولا من النفاثات، ولا من الحاسدين، لأن الله هو الحافظ، وهو خير الحافظين.
مواضيع مشابهة:
سورة الفلق – القرآن الكريم
تأملات في سورة الفلق 1 – الشيخ حبيب الكاظمي