الستر في الإسلام – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
إن الشريعة الإسلامية لم تغفل جانبًا من جوانب حياة الإنسان، بل رسمت له طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وشرّعت له الأحكام التي تحفظ كرامته حيًا وميتًا. ومن هذه التشريعات الإلهية التي تعبّر عن عمق التكريم الإلهي لبني آدم: تشريع دفن الميت بعد الوفاة، وقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى بأسلوب بليغ في قصة ابني آدم، التي صوّر فيها كيف تعلم الإنسان –بإلهام إلهي– هذا السلوك الحضاري الأول من طائر الغراب.
قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ). المائدة: 31
تفسير الآية:
في هذه الآية الكريمة، يرينا الله عز وجل مشهدًا من أولى فصول الجريمة في التاريخ البشري، حين امتدت يد قابيل لتقتل أخاه هابيل، بدافع الحسد والغيرة، فانقلبت الأرض شاهدة على أول دم بشري يُراق ظلمًا. وهنا، لم يكن قابيل يعلم كيف يتعامل مع جسد أخيه، فجاء التعليم من حيث لا يحتسب، من طائر غراب يبحث في الأرض ليدفن ميتًا من جنسه، ففهم الإنسان عبر هذا المشهد ضرورة ستر جثمان الميت بالدفن، وحفظ كرامته حتى بعد مفارقته الحياة.
الدفن تشريع تكريمي:
لقد أشار الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله إلى أن الدفن ليس مجرد عادة بشرية، بل هو تشريع رباني يحمل في طياته معاني الستر والتكريم للإنسان. ففي الحديث الشريف: “امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث…”
ثم يبين الحديث أن الدفن يمنع وقوع الجثة ضحية للهوى أو الطمع، ولولا وجود الدود في الأجساد لبقيت أجساد الملوك محفوظة واستأثرت بها النفوس، ولولا تغير رائحة الميت لما دفن الناس موتاهم. ولكن الشريعة جاءت لتحفظ للإنسان كرامته، وتجنّب المجتمع آثار التفسخ الروحي والأخلاقي إن تُرك الميت بلا دفن.
قصة قابيل وهابيل: من القربان إلى القتل
جاءت هذه الآية ضمن سياق قصة قربان قابيل وهابيل، حيث قُبل قربان هابيل لأنه قدّمه بإخلاص ونقاء نية، بينما رفض قربان قابيل لأنه قدّمه من أردأ ما يملك. هذه المفارقة أشعلت نار الحسد في قلب قابيل، فقتله، وكانت تلك أول جريمة قتل على وجه الأرض، وسجلت أول حادثة استحلال للدم البريء.
لكن رغم بشاعة الجريمة، بقي في قلب القاتل أثر من الإنسانية، حيث لم يستسغ أن يرى جسد أخيه مكشوفًا. فـ”السوءة” هنا كناية عن العورة، وما تعنيه من موضع خزي وحرج، أي إن حتى الجاني لم يحتمل أن يرى أخاه بتلك الهيئة، ووقف مذهولًا حتى جاء الغراب ليعلمه كيف يواري جثة أخيه.
من الغيرة على العورات إلى تبرج العصر:
هنا يعقد الشيخ الوائلي مقارنة لاذعة بين موقف قابيل من عورة أخيه، وموقف كثير من الناس في زماننا اليوم، حيث استمرأت المجتمعات كشف العورات وتبرج النساء، وتقديم مفاتن الجسد على أنها عنوان الحداثة والانفتاح.
فصار الرجل لا يغار على عرضه، بينما تذهب زوجته أو ابنته إلى أماكن التجميل والتعري بحجّة “التطور ومسايرة العصر”. والغريب في الأمر، أن نفس الرجل الذي ينتفض غيرةً إن هُدّدت مصالحه المادية أو سُلب منه شيء من ممتلكاته، يقف صامتًا إن هُتكت حُرمة بيته وأخلاق أهله!
إنه انحدار في سلم الفطرة، وتخلف في فهم معنى الكرامة الإنسانية، التي تبدأ من غيرة الرجل على أهله، وتنتهي بطلب الجنة لهم، لا بإلقائهم في مواطن الريبة والمعصية.
وقد نبهنا الله في كتابه الكريم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6]
فالمسؤولية لا تقع فقط على المرأة، بل على الرجل أيضًا أن يقود سفينة بيته، لا أن يتركها تتلاطمها أمواج العولمة والانفلات الأخلاقي.
خاتمة:
إن الدفن هو أول درس تلقاه الإنسان من مدرِسة الحياة، عبر معلم من الطير، ليعلمه أن كرامة الجسد لا تنتهي بالموت. وكل من يسير في درب الإيمان، عليه أن يتعلم كيف يحفظ عورته وعورة أهله حيًا وميتًا، وأن لا يجعل الأعراف الحديثة تُغشي بصيرته عن الحق.