قناة المعارف الفضائية | سراج العلم والفضيلة
فهرس: المنبر العميد
آخر برامج من: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (ره)
آخر برامج في قناة المعارف الفضائية

خلق الإنسان – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله

قال تعالى في محكم كتابه: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ سورة الطارق: 5 – 7

يبدأ القرآن الكريم في هذه الآيات بدعوة الإنسان إلى التفكر والتأمل في أصل خلقته، وهي دعوة تربوية تنطلق من مركز الوعي الذاتي، فبدلاً من أن يغتر الإنسان بقوته أو ماله أو علمه، يوجّهه الله تعالى لأن يعود بنظره إلى بدايته، إلى أصل خلقه، ليعرف قدره وحدوده وليفهم حقيقة وجوده، فيتواضع أمام خالقه.

القرآن لم يأتِ هنا على بيان مسألة علمية محضة تتحدث عن الأحياء أو عن التناسل أو المراحل الجنينية فقط، وإنما جاء بأسلوب بلاغي معجز يجمع بين العلم والموعظة في آنٍ واحد، وهذا من خصائص الأسلوب القرآني، إذ يجعل من الحقائق العلمية جسراً لتربية الوجدان البشري.

يقول تعالى: ﴿خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ﴾

وهنا يصف القرآن الماء الذي يُخلق منه الإنسان بأنه “دافق”، أي متحرك متدفق، فيه قوة دفع، وهو تعبير دقيق عن خصائص السائل المنوي الذي لا يكون فعّالًا في تلقيح البويضة إلا إذا خرج بقوة واندفاع. وهذا التعبير لا يمكن أن يصدر إلا من خالق يعرف دقائق خلق الإنسان.

ثم يقول تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾

وقد اختلف المفسرون في تحديد معنى “الصلب” و”الترائب”، فبعضهم قال إن الصلب هو عظام الظهر، والترائب هي عظام الصدر، والبعض الآخر ذهب إلى أن الصلب يرمز إلى الرجل، والترائب إلى المرأة. وفي كلا الرأيين دلالات لطيفة:

من جهة بيولوجية: نجد أن الماء الدافق يتكوّن داخل جسم الذكر، لكنه يحتاج إلى شبكة معقّدة من الأعضاء والغدد المتصلة بالحوض والعمود الفقري وعظام الحوض (التي تشمل ما بين الصلب والترائب) حتى يُفرَز بشكل فعّال.

ومن جهة إعجاز بياني: أراد الله تعالى أن يربط هذا الخلق المتواضع بجذور الوجود الجسدي، فيجعله دليلاً على عظمة الصانع وقدرته.

وليس الهدف من هذه الآيات مجرد البيان العلمي، وإنما الهدف الأعظم هو تقويم الإنسان من الداخل، وهدم الغرور الذي يتسرب إلى نفسه حين يتوهم أنه “شيء” وهو في حقيقته “لا شيء” لولا نفخة الروح الإلهية فيه.

وقد علّق بعض العلماء بأن الله أراد من هذه الآية أن يقول للإنسان: أنت مخلوق من ماء مهين، فلا تتكبر، ولا تتجبر، ولا تعتقد أنك مستغنٍ عن ربك، فالذي خلقك من هذا الماء قادر على أن يعيدك إلى مثله، ويبعثك منه مرة أخرى.

 

من البذرة إلى الإنسان الكامل

خلق الإنسان من ماء دافق لا يمثل فقط بُعد الخلق العضوي، بل يُمثل مرحلة البدء في رحلة طويلة نحو التكامل، إذ أن هذه “النطفة” التي لا تكاد تُرى، تتحوّل بتقدير الله إلى إنسان يحمل عقلاً، وعاطفة، وإرادة، ويصبح قادراً على حمل أمانة الخلافة في الأرض.

ولذلك لا يُراد من الإنسان أن يقف عند حدود “الخلق” بل أن يرتقي في مراتب “التحقق” و”الكمال”، من كائن يتكون من ماء مهين إلى كائن يسجد له الملائكة بعلمه ووعيه وعبوديته لله.

 

دعوة إلى النظر لا إلى الغفلة

تفتتح الآية بأمر إلهي واضح: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ﴾، وهي دعوة قرآنية تتكرر في مواطن كثيرة، لأن الدين ليس عاطفة عمياء، بل دين تفكر وتدبر. والقرآن يريد من هذا “النظر” أن يتحول إلى إدراك حقيقي، يولّد الخشوع والمسؤولية والانكسار بين يدي الله.

فالذي يعرف أنه من ماء دافق، ويعرف أن بدايته كانت “لا شيء”، ويعرف أن كل ما لديه من سمع وبصر وقلب وعقل هو عطاء من الله، لن يتكبر على عباد الله، ولن يعصي أوامر مولاه، بل يسعى ليكون كما أراد الله له: خليفةً في الأرض يسعى لإعمارها بالحق والعدل والرحمة.