قناة المعارف الفضائية | سراج العلم والفضيلة
فهرس: المنبر العميد
آخر برامج من: الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (ره)
آخر برامج في قناة المعارف الفضائية

دور العناد في الصد عن الحق – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله

(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) [سورة الحجر: 14-15]

تسلّط هذه الآية الكريمة من سورة الحجر الضوء على إحدى الظواهر النفسية الخطيرة التي قد تُصيب الإنسان، وهي العناد المتجذّر الذي يجعل صاحبه يرفض الحقّ مهما تجلّت براهينه وسطعت أدلته. والقرآن، ببلاغته المعجزة، يصوّر هذا النوع من الناس على أنهم في حالة من الإنكار المَرَضي، بحيث لو رأوا أعظم المعجزات كالصعود إلى السماء، لما زادهم ذلك إلا تمادياً في الكفر، واتّهاماً لعيونهم بأنها سُكِّرت أو لعقولهم بأنها سُحِرت.

 

أسباب العناد عند زعماء قريش:

إنّ الخلفية التاريخية لنزول هذه الآية تتّضح من سلوك زعماء قريش الذين أصرّوا على رفض دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله رغم علمهم بصدقه وأمانته وعلو شأنه.

  1. الخوف على المصالح والمكانة:

زعماء قريش كانوا يخشون أن تسلبهم دعوة الإسلام النفوذ والزعامة على قبائل العرب، لأن الإسلام يساوي بين الناس، ولا يعترف بامتياز طبقي قائم على النسب أو المال.

  1. تهديد لمصادر الثروة:

الإسلام حرم الربا، البغاء، وألغى مظاهر الاستغلال، وكلها كانت مصادر دخل ضخمة لأهل مكة. كما أن الأصنام كانت تمثل تجارة ضخمة؛ تُصنع وتُباع وتُعبد، وتجلب القرابين والنذور، ولذلك فإن التوحيد كان يُهدد مصالحهم الاقتصادية المباشرة.

  1. الدعوة للتحرر من الطبقية والعبودية:

الإسلام مَهّد لتحرير العبيد، وجاء بمبدأ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ليكسر هرميّة المجتمع القريشي الذي كان يعتاش على الطبقية والاستعلاء.

 

عناد يُعمي عن الحقّ:

حتى مع المعجزات، لم يلن قلب هؤلاء الزعماء، بل قالوا: “سُكّرت أبصارنا”، أي أصابها سُكر أو خُدعنا عن الرؤية، أو: “نحن قومٌ مسحورون”. فكل حجة، وكل آية، تُواجه عندهم بنفس التفسير الماكر، لأن النفوس ملوثة بالمصالح والأنانية.

ويصفهم القرآن في موضع آخر: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل: 11]

و”أُولي النعمة” هم الأثرياء الذين تتصادم مصالحهم مع دعوات الإصلاح، فيقابلونها بالتكذيب والعناد.

 

العروج المادي لا يهدي… بل الهداية للعقول النقية:

القرآن يرسم معادلة واضحة: الهداية لا تحصل بكثرة المشاهدة الحسية أو المعجزات المادية، بل بالتجرد من الأهواء والعصبيات، وتحرير النفس من قيود المصالح، ثم استعمال نعمة “العقل المتدبّر” و”القلب المستنير”.

وقد ورد في الحديث الشريف: “تفكّر ساعة خير من عبادة ستين سنة”

هذا هو العروج الحقيقي، العروج الروحي لا الجسدي، والذي يقود إلى الله، ويكشف الحقيقة، ويصل بالإنسان إلى التسليم والانقياد للحق.

 

العناد المعرفي في زمن العلم:

في عصرنا، ورغم تطور العلم وانكشاف الكثير من أسرار الكون، ما زال هناك من ينكر وجود الخالق أو يسخر من الشرائع السماوية. والسبب في ذلك ليس نقص الأدلة، بل ذات الداء: العناد المزمن، والتحيّز الأيديولوجي، والرفض المسبق لأي سلطة أخلاقية أو دينية تُقيّد شهواتهم أو تحدّ من طغيانهم.

 

الحسين عليه السلام ومأساة العناد:

أشدّ صور العناد وأقساها ما حصل مع الإمام الحسين عليه السلام، الذي وقف على أرض كربلاء يواجه جيشاً يعلم يقيناً بأنه سبط رسول الله وريحانته. قال لهم: “فبم تستحلون دمي؟ أما أنا ابن بنت نبيكم؟”

ومع ذلك، لم يُجب أحد بعقل، لأن العناد والمصالح والضغينة أعمت القلوب، ففضّلوا النار على الجنة، وقتلوا ريحانة رسول الله لأجل دنانير زائلة.

 

وفي الختام:

العناد ليس مجرد خصلة سلبية، بل قد يتحوّل إلى حجاب كثيف يمنع الإنسان من رؤية الحقيقة، مهما تجلّت أمامه. وصدق الله إذ قال: (إِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)

فلنلتمس الهداية من الله بالتجرد والتفكر والتواضع، ونسأله أن يطهر قلوبنا من العناد، ويهدينا سواء السبيل.