الدفاع عن الوطن – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
الدفاع عن الوطن من أسمى القيم التي رسّخها الإسلام، ليس باعتباره ضرورة سياسية أو وطنية فقط، بل فريضة دينية ترتبط بحفظ الدين والنفس والعرض. وقد تناول القرآن الكريم هذه القضية بأسلوب بالغ العمق، من خلال قصص الأمم السابقة، ومن أبرزها قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.
قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ سورة البقرة: 243
السياق التاريخي والديني للآية:
هذه الآية نزلت في قومٍ من بني إسرائيل كانوا تحت راية نبيٍ من أنبياء الله، يُروى أنه ذو الكفل، وقد خرجوا بأعداد كبيرة لقتال عدوٍ متربّص، فلما علموا أن هذا العدو مصابٌ بوباءٍ قاتل (الطاعون)، تراجعوا عن المضي في القتال، وأعرضوا عن أمر نبيهم، مخافة أن يصيبهم الموت. وهنا جاءهم العقاب الإلهي الصاعق: “فقال لهم الله موتوا”، ثم أعادهم إلى الحياة “ثم أحياهم”، ليكونوا عبرةً لمن يأتي بعدهم.
الدروس الإيمانية والفقهية المستفادة:
- الدفاع عن الوطن واجب ديني قبل أن يكون وطنيًا
لقد دلّت هذه الآية، بما تحمله من توجيه إلهي، أن التخاذل عن نصرة الدين والوطن بحجة الخوف من الموت، لا يُعد عذرًا مقبولًا. فالله سبحانه يقرر حقيقة جوهرية: أن الموت لا يُؤخر أو يُقدّم، وأن الفرار منه لا يُنجي.
الإنسان الذي يهرب من الدفاع عن بلاده، بحجة الحفاظ على حياته، قد يخسر الاثنين معًا، فالوطن هو الحاضن لحياته وعقيدته ومقدّساته، وإن سقوط الوطن هو في ذاته سقوطٌ للحياة الكريمة.
- الرجعة إلى الحياة دليل على قدرة الله المطلقة
من المسائل العقائدية التي أثارت جدلاً واسعًا بين المسلمين هي قضية “الرجعة”؛ أي عودة بعض الناس إلى الحياة بعد الموت. وتُعتبر هذه الآية من أوضح الدلائل القرآنية على إمكان ذلك. فالله تعالى لم يحيِ شخصًا أو اثنين، بل ألوفًا من الناس، بعد أن أماتهم.
وهذا يدحض إنكار من يُكفّر أو يُشكّك في إمكان الرجعة في آخر الزمان، لأن ما ثبت في القرآن لا مجال لإنكاره بالعقل. والرجعة لا تتنافى مع السنن الإلهية، بل هي مظهر من مظاهر العدالة الربانية لإقامة الحُجة وإنصاف المظلومين.
- التضحية في سبيل الوطن لا تُقارن بثمن
من الإشارات العميقة في هذه الآية أن الله لم يُحيي هؤلاء القوم ليتمتعوا بالحياة فحسب، بل ليعلّمهم أن الحذر الزائد، والتردد أمام مواجهة المصير، لا يُنجي من قضاء الله.
الدفاع عن الوطن يستدعي رجالًا يحملون الإيمان في قلوبهم، ولا يخافون إلا الله. فالمعركة التي يخوضها الإنسان للدفاع عن أرضه وشرفه، ليست مجرد صراعٍ مادي، بل اختبارٌ إيماني يُفرز الصادق من المتخاذل.
موقف أهل البيت عليهم السلام:
في ضوء هذه المعاني، نفهم كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، حين قال:
“أيّ يومَيَّ من الموت أفرّ؟ يوم لا يُقدّر أو يوم قد قُدِّر؟ يومَ ما قُدّر لا أرهبه، وإن قدّر لا يُنجي الحذر.”
كلمات تختصر فلسفة القتال في سبيل الله والدفاع عن الأرض، إذ إن الموت لا يأتي إلا بأمر الله، والشجاعة لا تُنقِص الأجل، كما أن الجبن لا يُطيله.
وفي معركة الخندق، حين صمتت الألسن وتخاذلت السواعد، اختار النبي الأكرم رجلًا لا يعرف للفرار طريقًا، وقال: “لأُعطينّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويُحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار.”
الدروس المعاصرة من هذه القصة:
إن ما نراه اليوم من احتلال وتآمر على بلاد المسلمين، وتهديد دائم لأمن الأوطان، يجعل من واجب كل مسلم غيور أن يُعيد النظر في مسؤوليته تجاه وطنه، دينًا وعقيدة، لا قوميةً وشعارًا.
التخلف عن الواجب، أو ترك الجهاد الدفاعي، هو صورة مكرّرة من قصة بني إسرائيل الذين عصوا أمر الله، فأنزل عليهم الموت ليعلّمهم أن الأمن الحقيقي لا يُستجدى من الفرار، بل يُؤخذ بالشجاعة والإيمان.
خاتمة:
الدفاع عن الوطن ليس شعارًا يُرفع في وجه التهديدات، بل هو عبادةٌ تُمارس في ميدان المواقف، وامتحانٌ لصدق الإيمان. فالذي يُدافع عن وطنه يُدافع عن أهله، دينه، وكرامته، والقرآن الكريم علّمنا أن الموت لا يُدركنا إلا في وقته، وأن النجاة تكون في طاعة الله، لا في مخالفة أمره خوفًا من الخطر.
فهل آن للقلوب أن تستيقظ، وللعيون أن تبصر أن الأوطان لا تُصان بالكلمات، بل بالمواقف؟!