المسلمون بين الماضي والحاضر – د. الشيخ احمد الوائلي رحمه الله
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى فِيهِمْ مِنَ اَلْقُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ وَ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ اِسْمُهُ، وَ مَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ اَلْبِنَاءِ خَرَابٌ مِنَ اَلْهُدَى…”
هذه الكلمات الخالدة ليست مجرد نبوءة عن مستقبل المسلمين، بل هي تحذيرٌ من الانزلاق في مسار يفصل بين المظهر والجوهر، بين الأسماء والشعارات من جهة، والعمل والمضمون من جهة أخرى.
واليوم، ونحن نقرأ هذه الكلمات في زمننا الحاضر، نجد الكثير من مظاهر الإسلام قائمة: مصاحف محفوظة، مساجد عامرة بالبناء، شعارات تُرفع باسم الدين، لكن جوهر الدين في حياة كثيرين قد تراجع أو غاب.
القرآن بين الحفظ والعمل
حين قال الإمام عليه السلام: “لاَ يَبْقَى فِيهِمْ مِنَ اَلْقُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ”، لم يقصد ضياع النص المكتوب، بل ضياع العمل به.
فالقرآن قد يُزيَّن بالذهب ويُحفظ في الرفوف، لكن أحكامه تُهمل في الحياة العملية.
وهذا ما نراه اليوم في معاملات كثيرة تقوم على الربا، وفي تقديم المصالح الشخصية والسياسية على أحكام الشريعة.
إنها صورة تُجسّد القطيعة بين تلاوة القرآن وتطبيق القرآن.
الإسلام بين الاسم والحقيقة
في تتمة الحديث: “وَ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ اِسْمُهُ”، يُشير الإمام إلى خطر الاكتفاء بالانتماء الشكلي للإسلام دون التزام حقيقي بتعاليمه.
كثير من المسلمين اليوم مسلمون بالهوية، لكن سلوكياتهم وأخلاقهم لا تمتثل لروح الإسلام.
فهناك من انسلخ تمامًا من الدين، وهناك من تشبث بالقشور وترك اللب، حتى أصبح الإسلام عند بعضهم واجهة اجتماعية لا أكثر.
دور المساجد: منارة الماضي وواقع الحاضر
في العصور الأولى، كانت المساجد قلب الأمة النابض:
مكانًا للعبادة والخشوع.
مدرسة لتعليم العلوم الشرعية والدنيوية.
مركزًا للشورى وحل القضايا الاجتماعية.
المسجد النبوي، ومدارس الأئمة عليهم السلام، خصوصًا في عهد الإمام الصادق عليه السلام، كانت تصنع علماء ومصلحين.
أما اليوم، فكثير من المساجد اقتصرت على الجانب الشكلي، وبعض روادها أو خطبائها يُشعلون الفتن، ويغذون العصبية المذهبية، بدل أن يكونوا دعاة وحدة وإصلاح. وهنا يتحقق قول الإمام عليه السلام: “مِنْهُمْ تَخْرُجُ اَلْفِتْنَةُ وَ إِلَيْهِمْ تَأْوِي اَلْخَطِيئَةُ”.
قراءة في الفتنة المعاصرة
الفتنة التي حذّر منها الإمام ليست حدثًا طارئًا، بل حالة متواصلة من الانحراف الفكري والخلقي.
والمؤلم أن بعض من يتصدرون المنابر أو يتولون مواقع التأثير الديني، يُسهمون في تكريس الانقسام، بدل توجيه الأمة نحو الوعي والنهضة.
وقد جاء في الحديث: “فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ فِتْنَةً تَتْرُكُ اَلْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ”، وهي صورة نراها اليوم في الاضطراب الفكري والاجتماعي الذي يُربك حتى العاقل الحكيم.
خاتمة: استقالة من الغفلة
إن كلام أمير المؤمنين عليه السلام دعوة إلى مراجعة الذات، وإلى الانتقال من الإسلام الشكلي إلى الإسلام الحقيقي.
المطلوب أن نعيد وصل حياتنا بالقرآن عملًا لا حفظًا فقط، وأن نجعل المساجد مراكز للهداية والتقريب لا ميادين للفرقة.
فلنستقل الله عثرة الغفلة، قبل أن نكون ممن قال عنهم الإمام: يملكون الأسماء والشعارات، لكن الحق قد فارقهم.