كونوا قوامين بالقسط شهداء لله – د. الشيخ احمد الوائلي رحمه الله
يأمر الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾
هذه الآية الكريمة تحمل مبدأً أساسياً من مبادئ التشريع الإسلامي، وهو إقامة العدل بلا تحيز، وجعل الشهادة لله وحده دون أن تتأثر بالمصالح أو العواطف أو الروابط العائلية. فهي ليست مجرد توجيه أخلاقي، بل قاعدة تشريعية ترتبط مباشرة بالفقه الجنائي والاجتماعي.
الشهادة والفقه الجنائي في الإسلام
العدالة لا يمكن أن تتحقق إذا التزم الناس الصمت أمام الجريمة. فالقاضي لا يستطيع أن يكون حاضرًا في كل مكان ليشهد على ما يقع، ولذلك جعل الإسلام مسؤولية الشهادة على عاتق أفراد المجتمع.
إن إخفاء الشهادة أو التلاعب بها ليس فقط خيانة للأمانة، بل هو تعطيل لميزان العدل، مما يتيح للمجرمين الإفلات من العقوبة ويشيع الفساد في الأرض.
العدل فوق الروابط والعواطف
تؤكد الآية أن على المؤمن أن يقول الحق ولو كان ذلك ضد نفسه أو والديه أو أقاربه. هذه المرتبة من الصدق والشجاعة الأخلاقية لا تتحقق إلا عند من امتلأ قلبه بالإيمان وامتلأت نفسه بالضمير الحي.
فالعدل في الإسلام لا يعرف مجاملة على حساب الحق، ولا ينحني أمام العصبيات القبلية أو الروابط العائلية. وهذا ينسجم مع قول النبي صلى الله عليه وآله:
“انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”
فسأله الصحابة: “ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟” قال: “تحجزه عن ظلمه، فذلك نصره”.
القسط في القرآن ومعناه
القسط في لغة القرآن يعني العدل المطلق، وهو ليس مجرد مساواة شكلية، بل وضع الشيء في موضعه الصحيح. فالمساواة قد تكون ظلماً إذا لم تراعِ الفروق بين الناس:
لا يمكن مساواة العالم بالجاهل في الاحترام.
لا يمكن مساواة المجرم بالبريء في الحكم.
لا يمكن مساواة الفقير بالغني في العطاء إذا كان الغني قادرًا والفقير محتاجًا.
ولهذا قال الله تعالى:
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾
فالعدل يقتضي أن يُعطى كل ذي حق حقه بحسب ما يستحق.
لماذا خُصّ المؤمنون بهذا الأمر؟
الله تعالى وجّه خطابه للمؤمنين لأن الإيمان الحق يرسّخ القيم الأخلاقية التي تمنع الإنسان من تحريف الشهادة أو الكذب فيها. أما من لا يؤمن بالقيم الإلهية فقد تحكمه أهواء المصلحة والمنفعة، فيبيع شهادته لمن يدفع أكثر، أو يجامل على حساب الحق.
وفي واقعنا المعاصر، نرى كثيرًا من المجتمعات تضعف فيها قيمة الشهادة الصادقة، فتغلب عليها الروابط القبلية والمصالح الشخصية، مما يفسد العدل ويهدم الثقة بالقضاء.
إزالة الأغلال العصبية
الأمر بأن نكون “شُهَدَاء لِلَّهِ” يعني أن ننزع عن قلوبنا كل أشكال العصبية: القبلية، القومية، العائلية، أو حتى العصبية للوطن إذا تعارضت مع الحق. ليس المقصود أن نتخلى عن محبتنا لأهلنا ووطننا، بل أن لا ندع هذه المحبة تحجبنا عن قول كلمة الحق حين يتطلب الأمر.
خاتمة
آية ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ ليست مجرد شعار، بل منهاج حياة. فهي تدعو المؤمن لأن يكون عموداً من أعمدة العدل في المجتمع، لا يميل مع الهوى، ولا يبيع ضميره للمصالح، ولا يخشى في الله لومة لائم. فالمجتمع الذي يلتزم أفراده بالشهادة لله هو مجتمع تسوده النزاهة، ويختفي منه الظلم، ويترسخ فيه الأمن والطمأنينة.
مواضيع مشابهة
المعنى الحقيقي للعدل – الشيخ عبد الأمير البصري
خوف عدم العَدل