منهج الإسلام في الاعتدال – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
هذه الآية المباركة تحمل معاني عظيمة تمسّ حياة الإنسان اليومية، وتضع قاعدة ذهبية في السلوك الاجتماعي والعبادي، وهي قاعدة الاعتدال والتوازن.
السياق التاريخي للآية
كان العرب قبل الإسلام يمارسون بعض العبادات بعادات خاطئة، منها:
ترك الثياب عند الطواف بالكعبة بدعوى أنها قد تكون من مال حرام.
لبس الثياب الرثة والبالية عند العبادة بزعم الزهد والتواضع.
وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله بقي بعض المسلمين متأثرين بهذه الموروثات، فجاءت الآية لتؤكد على أهمية النظافة، وحسن المظهر، والتطيب عند التوجه إلى المساجد، بل وجعل الإسلام غسل الجمعة من المستحبات المؤكدة، ليجمع المسلم بين الطهارة الظاهرة والباطنة.
شمولية الخطاب الإلهي
اللافت أن الخطاب في الآية موجه إلى عموم بني آدم، لا إلى المسلمين وحدهم. والسرّ في ذلك أن التكاليف الإلهية – سواء في أصول العقيدة أو فروع الشريعة – موجهة للناس كافة، ومسؤولية كل إنسان أن يبحث عن المعتقد الصحيح ويسلك سبيل الحق.
معنى قوله تعالى: (عند كل مسجد)
تشير الآية إلى أن المساجد بيوت الله، وهي حق لجميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، ما داموا يشهدون بوحدانية الله، ورسالة النبي صلى الله عليه وآله، ويقيمون الصلاة ويستقبلون القبلة. فالمسجد ليس حكرًا على فئة معينة، بل هو مركز عبادة يجمع الأمة على كلمة سواء.
بين الزهد والإسراف
أرادت الآية أن تُصحح المفهوم الخاطئ للزهد؛ فالزهد لا يعني ترك اللباس الحسن أو الطعام الطيب أو التعطر والتنظيف. بل إن الإسلام يحث على التزين والاعتدال، ولكن دون إسراف أو تبذير.
فالغاية هي تحقيق التوازن الاجتماعي؛ لأن الإسراف عند الأغنياء وأصحاب الأموال يؤدي إلى البذخ على حساب قوت الفقراء، ويخلق فجوة طبقية في المجتمع. ومن هنا جاء التحذير الإلهي: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
الدروس المستفادة من الآية
وجوب النظافة وحسن المظهر عند دخول المساجد.
أهمية الجمع بين الزينة الظاهرة والروح الطاهرة في العبادة.
الإسلام دين وسطية يرفض الإفراط والتفريط.
ضرورة محاربة الإسراف لحماية التوازن الاقتصادي والاجتماعي.
خاتمة:
إن آية “كلوا واشربوا ولا تسرفوا” تمثل قاعدة خالدة في حياة المسلم، فهي تدعو إلى الاعتدال في الطعام والشراب، والزينة والنظافة، وتربط العبادة بالسلوك الاجتماعي. الإسلام لا يريد من الإنسان حرمان النفس ولا إغراقها في الملذات، بل يريد مجتمعًا متوازنًا يعيش أفراده بكرامة وعدل، بعيدًا عن الإسراف المذموم والزهد المغلوط.