خلود الشهداء – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).
سبب نزول الآية الكريمة
جاءت هذه الآية العظيمة لتوثّق أسمى عقد بين العبد وربه، حيث نزلت في طائفة من المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله على أن يبذلوا أرواحهم وأموالهم نصرةً لدين الله، فكان وعد السماء لهم هو الجنة، وعدًا مكتوبًا في جميع الشرائع السابقة، وخاتمًا في القرآن الكريم. هذه البيعة ليست مجرد التزام دنيوي، بل هي إعلان ولاء أبدي لله تعالى، وقطع صلة بكل عبودية لغيره.
أنواع الشرك بالله تعالى
لفهم قيمة هذه البيعة، لا بد من معرفة ضدها: الشرك بالله. والشرك نوعان:
الشرك الجلي: عبادة الأصنام والأوثان أو أي مظهر من مظاهر تقديس المخلوق كمعبود.
الشرك الخفي: الرياء، وحب المنزلة، وطاعة الهوى، وكل ما يجعل القلب يتعلق بغير الله في الطاعة أو الحب أو الرجاء.
ومن هنا نفهم أن من بايع الله بصدق لا يمكن أن يلوث قلبه بهذه الأوثان المعنوية أو المادية.
حال روح المرء بعد وفاته
بعد أن يُسلم المؤمن نفسه لله، فإن لحظة الموت تكون انتقالًا من ضيق الدنيا إلى فسحة الآخرة. أرواح الشهداء خاصةً تخرج طيبة راضية، فتستقر في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، كما ورد في الحديث الشريف، تفرح بما آتاها الله من فضله، وتشتاق لليوم الذي يلتقي فيه الجسد بالروح في نعيم أبدي.
ثواب الشهيد عند الله تعالى
الشهيد في سبيل الله له مكانة خاصة، فقد غفر الله له من أول قطرة دم، وأمّنه من فتنة القبر، ورفع درجته في الجنة، وأكرمه برؤية مقامه منذ لحظة استشهاده. والشهادة ليست فقط موتًا في المعركة، بل موت في سبيل نصرة الحق، وإقامة العدل، ورفض الظلم، كما فعل الحسين عليه السلام.
أثر حب الشهادة في سبيل الله
حب الشهادة ليس نزعة انتحارية، بل هو شوق إلى لقاء الله مع بذل النفس في نصرة القيم الإلهية. هذا الحب يولّد في القلب قوة لا تقهر، ويجعل المؤمن ثابتًا أمام أعظم التحديات، لأنه يرى الموت جسراً نحو حياة أوسع وأبهى.
شروط الجهاد في سبيل الله
حتى يكون الجهاد جهادًا شرعيًا، لا بد من توفر شروطه:
أن يكون بإذن الإمام أو ولي الأمر الشرعي.
أن تكون الغاية إعلاء كلمة الله لا تحقيق مصالح شخصية.
أن يلتزم المجاهد بأحكام الشريعة حتى في ساحة القتال.
أن يسبق الجهاد إصلاح النفس وتطهيرها من الشرك الخفي.
حتمية وفاء الله تعالى بوعده للمؤمنين
الله عز وجل لا يخلف وعده، ووعده للمؤمنين بالنصر أو الجنة وعد حق. قد يتأخر النصر المادي لحكمة، لكن النصر الحقيقي هو الثبات على طريق الحق حتى النهاية، وهو فوز لا يناله إلا الصادقون.
سبب خلود الإمام الحسين عليه السلام في الضمير البشري
خلود الإمام الحسين عليه السلام ليس بسبب معركة كربلاء فقط، بل لأنه جسّد معنى الآية الكريمة: باع نفسه لله، فلم يبقَ في قلبه مكان لغيره، وجسّد أعلى مراتب التوحيد، وواجه الشرك السياسي والديني، وترك للأمة ميراثًا من العزة والحرية، فصار رمزًا عالميًا يتجاوز الحدود والمذاهب.
الخاتمة
من ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ…﴾ إلى كربلاء، ومن بيعة المؤمنين إلى دماء الشهداء، يمتد خيط ذهبي من الإيمان الخالص الذي لا تشوبه شائبة شرك، إلى روح تحلق في ملكوت الله بعد الفداء. هذا هو الطريق الذي رسمته السماء: بيع بلا رجعة، عهد بلا نقض، ووفاء من الله لا يتخلف. ومن هنا نفهم أن حب الشهادة، والجهاد بشروطه، والوفاء بالبيعة، هي أسرار الخلود التي جعلت الحسين عليه السلام حيًا في الضمير الإنساني إلى يوم القيامة.
