أشكال النفاق – د. الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله
لقد كان النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله واضحَ المعالم، لا يتعدى كونه إبطانًا للكفر وإظهارًا للإسلام، وكان المنافقون يظهرون الصلاة مع المسلمين ويشهدون المجالس ويحضرون الجمعات، لكن ما إن ينصرفوا حتى يسخروا من آيات الله ويتآمروا على رسوله.
ومع مرور الزمن، ترسّخ الإسلام كدين ظاهر الحجة راسخ القواعد، فتطوّر النفاق واتخذ ألوانًا وأقنعةً أكثر خبثًا. بات النفاق يُلبَس لباس الحرية، ويُسمى بعناوين خدّاعة، فمن يدعو إلى إباحة الإلحاد علنًا في بلاد المسلمين بدعوى “حرية الاعتقاد”، ومن يطالب بفتح أبواب الدعارة والملاهي والمسكرات بدعوى “حرية شخصية”، بينما في الوقت ذاته يعلن إسلامه ويؤدي بعض الشعائر!
أليس هذا شكلًا جديدًا من النفاق الاجتماعي والثقافي؟
بل هو امتداد لما حذّر منه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا﴾ الأحزاب: 60
أسباب النزول:
يذكر الشيخ الطبرسي في مجمع البيان (ج8، ص531) أن هذه الآية نزلت في ثلاثة أصناف من أهل المدينة:
المنافقون: الذين يُظهرون الإسلام ويبطنون العداء للرسول صلى الله عليه وآله.
الذين في قلوبهم مرض: فُسّرت عند أئمة أهل البيت بأنهم ضعاف الإيمان، يتبعون الشهوات ويشكّكون في الوحي.
المرجفون: الذين ينقلون الإشاعات ويُضعفون الروح المعنوية للمجتمع المسلم، وينقلون الأخبار الكاذبة أو المبالغ فيها.
وجاء في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام، كما في تفسير القمي (ج2، ص192)، أن المراد بالمرجفين: (قومٌ كانوا يُؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله ويُعيّرونه ويشكّكون أصحابه به)
شرح الألفاظ والمفاهيم
﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ﴾: أي إن لم يكفّ هؤلاء عن أفعالهم الخبيثة.
﴿الْمُنَافِقُونَ﴾: هم الذين يسكنون في جلود المسلمين وقلوبهم تسكن في جبهة الكفر.
﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾: المرض هنا ليس عضويًا، بل مرض روحي، من الشكّ أو حبّ الشهوات أو حبّ الزعامة، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في الكافي ج2، ص289
﴿الْمُرْجِفُونَ﴾: هم الذين يُحدثون الفوضى الفكرية عبر الإشاعات، ينقلون الخوف واليأس بدلًا من الإيمان والصبر.
﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾: أي لنجعلنّك تأخذهم وتفضحهم وتأدّبهم.
﴿لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا﴾: في المدينة، لأن الله لا يرضى بأن تبقى هذه الأصناف في جوار نبيه.
دروس مستفادة من الآية الكريمة
خطر النفاق على المجتمع الإسلامي
ورد عن الإمام علي عليه السلام: (ما غُلب أهل الحق إلا بتواطؤ أهل الباطل وتخاذل أهل الحق) نهج البلاغة، خطبة 201
فالمنافق قد يصلي معك لكنه يطعن بك بعد الصلاة.
الإرجاف سلاح بيد العدو
ما أشدّ أثر الإشاعة حين تنتقل بين الناس كالنار في الهشيم، ولذا عاقب الله المرجفين، لأنهم يكسرون وحدة الجماعة، ويطعنون في ثقة الناس بقيادتهم.
وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: (المؤمن وقّافٌ عند قوله، لا يُحدِث في الأمة رعبًا بكلمة (الكافي، ج2، ص 241
حرمة المجاهرة بالفسق بحجة “الحرية“
قال الإمام الباقر عليه السلام: (من جاهر بالمعصية فليس له حرمة) وسائل الشيعة، ج8، ص 587
وذلك لأن من أظهر الفسق جهارًا، كمن يُروّج للإلحاد أو الانحرافات الأخلاقية، فإنه يفسد غيره، وهذا نوع من الإرجاف الحديث.
التهديد الإلهي بالاجتثاث
لم يهدّد الله تعالى الكفار كما هدّد هؤلاء الثلاثة الأصناف، لأنهم يعملون من الداخل، ويقتلون العقيدة في القلب. وفي تفسير البرهان (ج4، ص317) عن الإمام الصادق عليه السلام أن هذه الآية كانت إنذارًا للمنافقين الذين كانوا يظنّون أن قربهم من النبي يمنع عنهم العقوبة، فجاءت الآية لتقول:
“إن لم تنتهوا، فوالله لا تبقون في المدينة إلا ذليلين أو مقتولين”.
خاتمة
إن الآية الكريمة لا تتحدث عن واقعة مضت، بل تصف حال الأمة في كل زمان، فالنفاق باقٍ ما بقيت الشهوات، والإرجاف قائمٌ ما دام الجهل، ومرض القلوب مستمرٌ طالما طُويت السجادة وبقيت المعصية قائمة.
فعلينا أن نكون يقظين، حذرين من كل من يتسلل باسم الإسلام ليطعن في ثوابته، ومن كل من يسوّق للفساد باسم “الحرية”، ومن كل من يُرجف في بلادنا بإعلامه أو منصاته.
وإلا فإن العقوبة قريبة، والوعيد الإلهي صريح: ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا﴾