التزكية والتدسية – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله
إن الحث المتكرر على إيتاء الزكاة المقرون عادة بإقامة الصلاة في القرآن الكريم يوحي بالأهمية القصوى لهذه الفريضة التي أوجبها الله على عباده، ولكن قد يتساءل بعضهم هل إن الزكاة بذلك الحجم من الأهمية في حياة المؤمن لكي يتكرر التأكيد عليها لهذه الدرجة، أم أن للزكاة معاني أخرى قد تخفى عنا؟
في الواقع فإن الزكاة لها معان تتجاوز معنى الزكاة في الفقه والأحكام الشرعية، فهناك زكاة للمال وهناك زكاة للنفس والروح، وهو ما يعبر عن بتزكية النفس وتهذيبها.
وإن من يزكي نفسه يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة وفي الآخرة يستحق الأجر والمثوبة.
وهناك نوعان من التزكية إحداها ممدوحة والأخرى مذمومة، فأما الممدوحة فهي تزكية الإنسان نفسه بالفعل بأن يأتي بفعل في سبيل تزكية نفسه، أما التزكية المذمومة فهي مدح الإنسان لنفسه بالقول لا بالفعل، وهذا هو السائد بين عموم الناس وقلما تجد من يهتم بتزكية نفسه بشكل حقيقي وبالفعل لا بالقول.
إن التزكية بالفعل والعمل هي الاجتناب عن العديد من الآثام والموبقات التي نقترفها كل يوم، فيدخل أحدنا منزله غاضبا من أحد أزعجه خارج المنزل فيثور في وجه زوجته وأولاده المساكين الذين لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل، وهذه من التدسية لا التزكية التي ذكرها القرآن الكريم بقوله (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) والتدسية عكس التزكية، وهي تعني الفجور، وعكسه التقوى.
يمثل للتزكية بشخص ينظف لك منزلك فيجمع القمامة والفضلات ثم يحشرها هنا وهناك في أرجاء المنزل بدلا من إلقائها في مكانها المخصص وهو سلة المهملات ليرميها خارجا، لتجد المنزل نظيفا في الظاهر لكنك ستتفاجأ بالفضلات التي قد تنهال عليك في أية لحظة.
فالذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان من سوء ظن وحقد وعقوق للوالدين وكذب ونظرة محرمة هي بمثابة تلك الفضلات التي تتجمع هنا وهناك في حياة المؤمن، وهي ما يوصله إلى النار في يوم الحساب.
وإن مدح الرجل نفسه هو من التزكية المذمومة، فهو يتنافى مع التواضع وشكر المنعم، فمن مدح نفسه فهو ينسب الخير والفضل لنفسه في حين أن كل خير فيه فهو من الله، وهذا نحو من أنحاء الشرك الأصغر، وهو يجلب الرياء والعجب المذمومين.
وينبغي على الإنسان أن لا يعجب بنفسه مهما علا شأنه أو وصل إلى ما وصل إليه ومهما زادت عبادته، فكل رضا عن النفس مذموم، فمن يرضى عن نفسه فهو يرى نفسه فوق الجميع ولا يحق لأحد أن يعترض عليه كائنا من كان، وهذا من التكبر والغرور اللذين يعتبران من كبائر الذنوب.
وقد وردت في القرآن الكريم عدة آيات كريمة تتحدث عن التزكية، ومنها قوله تعالى (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى)، وكذلك قوله تعالى (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى).
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين يرزقهم الله جنات عدن هم من يزكون أنفسهم ويتحلون بتزكية النفس وتهذيبها وتطهيرها من جميع الأدران والذنوب والآثام.
وقال الله لموسى في كتابه الكريم (اذهب إلى فرعون إنه طغى * فقل هل لك إلى أن تزكى) وهذا يدل على أن أصل التدين هو التزكية، وإن الفصل بينهما هو فصل بين التدين والهدف من بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله.
إن الإنسان الذي يلتزم بالواجبات ويقيم الصلاة ويؤدي سائر الواجبات ولكنه لا يؤتي الزكاة بمعناها المذكور فهو ليس متدينا وهو في تناقض، وهو يقوم بالفصل بين العبادات والتزكية، وهو مرض خطير يجب المسارعة إلى الشفاء منه، ولا يعني ذلك أن يتوقف المرء عن الصلاة فهذا أخطر بكثير، لكنه عليه أن يسارع إلى إصلاح نفسه وتهذيبها وتطهيرها بالتزكية.
ومن الأمور التي يجب على الإنسان أن يزكي نفسه فيها كما ذكر في الروايات كظم الغيظ والعفو والحلم، وهي من الصفات المنسية التي يغفل عنها غالبية المؤمنين، فتجد أحدنا يغضب لأبسط الأمور ولا يعفو عن أحد ولا يحلم عنه، فأين هو من الآية الكريمة (ويدرؤون بالحسنة السيئة)؟!