الجهل بحقيقة الدنيا – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله
كثيرًا ما يُصاب الإنسان بخيبة الأمل والاضطراب النفسي حين يرى أن جهوده في تحصيل متاع الدنيا لم تُثمر سعادة دائمة أو استقرارًا مأمولًا. والسبب الحقيقي في ذلك لا يكمن في نقص الرزق أو ضيق الحال، بل في الجهل بحقيقة الدنيا نفسها، وماهية وجودنا فيها، وهو جهلٌ يرسّخ في داخلنا وهم البقاء وخلود النعم، رغم أن القرآن والسنّة مليئان بالتحذير من هذا الوهم.
لماذا نعلّق آمالنا على الدنيا؟
حين يجهل الإنسان أن الدنيا ممرّ لا مقرّ، وأنها مزرعةٌ للآخرة وليست هدفًا بحد ذاتها، فإنه يسعى فيها وكأنه خُلِق للخلود، فيركض وراء المال والمنصب والشهرة، ويغفل أن هذه النعم زائلة، وأن السعادة فيها مشروطة بالإيمان والعمل الصالح.
قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)
هذه الآية توازن بين سعي الإنسان في الدنيا، وضرورة أن يظل قلبه متعلقًا بالآخرة.
المعرفة النظرية لا تكفي
نحن نعلم أن الدنيا فانية، وأنها دار بلاء وامتحان، بل ونحفظ عشرات الأحاديث والآيات التي تصفها بذلك. ولكنّ الإشكال في عدم ترجمة هذه المعرفة إلى سلوك. فنحن نعمل ونجتهد وكأننا سنبقى أبدًا، وننشغل بزينتها، ثم ننسى التوجّه الحقيقي نحو الآخرة، فنعيش تناقضًا بين ما نعلم وما نمارس.
حين تأسرنا ملذّات الدنيا
تحت عنوان “تأمين المستقبل” و”القيام بواجب العيال”، نُعطي الأولوية القصوى للهمّ الدنيوي. نُرهق عقولنا وأجسادنا في التفكير والتخطيط والمراكمة، وفي الطريق تأسرنا شهوات النفس شيئًا فشيئًا، حتى نغفل عن نداء الآخرة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “الركون إلى الدنيا مع ما تعاين منها جهل، والتقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبن، والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار له عجز.”
بهذا نكتشف أن الركون إلى الدنيا علامة جهل، لأن من يُبصر زوالها لا يمكن أن يركن إليها.
أثر الجهل بحقيقة الدنيا على العبادة
الانشغال بالدنيا لا يقف عند حدود العمل والسعي، بل يتسلل إلى الروح، فيجعل الصلاة ثقيلة، والدعاء جافًا، والقرآن مهجورًا. والسبب؟ انشغال القلب بالدنيا، وغياب الخشوع.
فمن أكبر موانع الخشوع في الصلاة هو هذا الانغماس في الدنيا وعدم فهم حقيقتها. حين نكون مشغولين بما نملك أو نفقد، كيف يخشع القلب بين يدي الله؟
كيف نصل إلى التوازن؟
أن نؤمن أن الدنيا وسيلة وليست غاية.
أن نُحصّن أنفسنا بالعلم والعمل الصالح، لا بكثرة المال.
أن نزرع في قلوبنا الزهد الحقيقي، لا الترفّع الظاهري.
أن نُحاسب أنفسنا: كم نعطي للآخرة من وقتنا مقارنة بالدنيا؟
أن نستشعر قرب الأجل دومًا، فهو كفيلٌ بتقويم القلب وتحريره من التعلّق الفارغ.
خاتمة
الجهل بحقيقة الدنيا ليس مجرد خطأ فكري، بل هو خطر روحي يُفرّغ الحياة من معناها، ويجعل الإنسان يركض خلف سراب، فإذا جاءه الموت اكتشف أنه كان في غفلةٍ عميقة.
فلنُجاهد أنفسنا لنعرف الدنيا على حقيقتها، ونتعامل معها كما أراد الله: مزرعةً للآخرة، لا دار قرار.