أين زين العابدين ع – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله
في يومٍ ترتعد فيه الفرائص، وتذهل فيه كل مرضعةٍ عما أرضعت، وتطوى فيه السماوات كطيّ السجلّ للكتب، ينادى بين الخلائق بنداءات تميّز أهل الفضل والمقام، أولئك الذين أخلصوا لله قلوبهم، ووهبوا له جوارحهم، وسجدوا له في سواد الليل، وقاموا على ساق العبودية مرفوعي الرأس في ميادين الجهاد والطاعة.
ففي مشهد عظيم، حيث يتجلى العدل الإلهي والفرز الأبدي بين أولياء الرحمن وأشياع الشيطان، يسمع الناس منادٍ ينادي: “أين المتحابّون في الله؟ أين المتوسلون إلى الله بسجودهم؟ أين زين العابدين؟” وكأن هذه النداءات مفاتيح تُظهر المقامات وتفضح المخفيات.
زين العابدين.. اسمٌ يناديه النور
الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، هو الذي لقّبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بـ “زين العابدين” و”سيد الساجدين”. لقبٌ لم يُمنح عبثًا، بل نطقت به السماء وسُجّل في دواوين الملكوت.
فعن سفيان بن عيينة، قال الزهري: “إذا حدّثت عن علي بن الحسين قلت: حدّثني زين العابدين”. قيل له: “لمَ تقول له زين العابدين؟” قال: “لأن سعيد بن المسيب أخبرني عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين زين العابدين؟ فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين يخطو بين الصفوف”.
أي مقام هذا؟ وأي شهادة أعظم من شهادة رسول الله بحق وُلدِه المبارك؟ يُنادى في أعظم محشر، في أشرف موقف، أمام كل من أتى من الأولين والآخرين.
يخطو بين الصفوف.. بثبات ورضا
قول المعصوم: “يخطو بين الصفوف” ليس تعبيرًا لغويًا فقط، بل هو بيان لحال الإمام في ذاك اليوم المهيب: يسير واثقًا مطمئنًا، يعرف موضعه، ويعلم مقامه عند الله، لا تزلّ قدماه، ولا يخاف سوء الحساب، لأنه قد أتمّ حق العبودية لله وسجد حتى صار جبينه نقشًا من السجود.
إنه قائد موكب الساجدين، وإمام الركّع الخاشعين، وسيد من سجد لله حتى تتفطّر قدماه ويُغمى عليه من التعب، فإذا أفاق حمد الله على التوفيق.
زين العابدين وحفظ الدين بعد كربلاء
لولا الإمام السجاد (عليه السلام)، لما وصلنا جوهر ثورة كربلاء. فبعد أن سُبيت حرائر آل محمد (صلى الله عليه وآله) من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى الشام، كان الإمام علي بن الحسين، رغم مرضه الشديد، سيفًا ناطقًا في وجه الطغيان الأموي، وخطيبًا يفضح الظلم ويرد الحق إلى نصابه.
ففي مجلس يزيد بن معاوية، وقف الإمام السجاد خطيبًا بكلام يهدّ الجبال، عرّف الناس بنفسه، كشف زيف الحكم الأموي، وأعاد توجيه البوصلة نحو العترة الطاهرة.
ثم عاد مع موكب السبايا إلى كربلاء ومنها إلى المدينة، يحيي النهضة الحسينية ويؤسس لنهج عبادي روحي مقاوم، فكان دعاؤه سلاحًا، وسجوده طريقًا، وصبره عزيمةً إلهية.
من غلب؟ سؤال التاريخ
يروي الإمام الصادق (عليه السلام): لما عاد الإمام السجاد (عليه السلام) إلى المدينة بعد كربلاء، استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله قائلاً: “يا علي بن الحسين، من غلب؟”
وكان الإمام مغطى الرأس، في المحمل، فقال بكل هدوء وثقة: “إذا أردت أن تعرف من غلب، فحينما يحين وقت الصلاة، أذّن ثم أقم.”
يا له من ردّ فيه قمة البلاغة، فـ”الغلبة” ليست في كثرة العسكر ولا في سلطة المال، بل في ثبات المبادئ ودوام الصلاة، وفي من بقي له ذكرٌ في المحاريب، ومن خُلدت كربلاؤه في القلوب.
الخلاصة:
يوم القيامة، حيث تُكشف السرائر وتُفضح الضمائر، يُكرم زين العابدين بمناداة تليق بجلاله، ويُعرف عند الله بعبادته وصبره وجهاده.
فهل من محبّ لهذا الإمام؟ هل نقتفي آثاره في ليله الطويل وسجوده الخاشع؟ وهل نردّد دعاءه في “الصحيفة السجادية” التي تمثل نهجًا كاملاً للعبودية وطلب القرب؟