وصلة الأرحام منسأة في العمر (2) – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله
تتمةً للحديث عن الفقرة الفاطمية من الخطبة الزهرائية المباركة: «وَصِلَةَ الأرحامِ مَنْسَأَةً فِي العُمُرِ وَمُنْمَاةً لِلْعَدَدِ»، تأتي هذه الأحاديث الشريفة لتُكمل الصورة الروحية والاجتماعية التي أرادتها سيدة نساء العالمين عليها السلام في بيان أثر صلة الرحم في حياة الإنسان والمجتمع.
مكانة صلة الرحم في الإسلام:
ففي الرواية المروية عن الإمام الصادق عليه السلام، جاء أن رجلاً من خثعم سأل رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:
يا رسول الله أخبرني ما أفضل الاسلام؟ قال : الايمان بالله ، قال : ثم ماذا؟ قال : صلة الرحم ، قال : ثم ماذا؟ قال : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال : فقال الرجل : فأخبرني أي الاعمال أبغض إلى الله؟ قال : الشرك بالله ، قال : ثم ماذا؟ قال : ثم قطيعة الرحم ، قال : ثم ماذا؟ قال : الامر بالمنكر والنهي عن المعروف
هذه الرواية النبوية العظيمة ترسم ميزان القيم في الإسلام؛ فكما أن الإيمان بالله هو أساس الدين، فإن صلة الرحم هي عموده الاجتماعي والإنساني. أما قطيعة الرحم فهي من أبغض الأعمال إلى الله لأنها تمثل انحرافاً عن الفطرة الإيمانية وتدميراً لبنية المجتمع.
صلة رحم النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله هي أعظم مصاديق الصلة:
إن من أبرز وأعظم صور صلة الرحم هي صلة رحم النبيّ صلى الله عليه وآله، أي مودة أهل بيته الطاهرين والارتباط العملي بهم في الولاء والطاعة والاقتداء.
وقد قال تعالى في كتابه الكريم: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 23).
فمن وصل رحم النبي بوصل أهل بيته، فقد نال شرف الطاعة لله ورسوله، ومن قطعهم فقد وقع في القطيعة التي تجرّ السخط الإلهي.
وجاء في الحديث الشريف:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن أعجل الخير ثواباً صلة الرحم).
أي أن ثوابها لا يُؤجَّل إلى يوم القيامة فحسب، بل تظهر بركتها في الدنيا سريعاً في الرزق والعمر والمودة والسكينة.
كلمة الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة حول قيمة العشيرة والرحم:
ومن أجمل ما قيل في فلسفة صلة الأرحام قول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة (الخطبة 23):
(أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ، وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ…)
ثم يقول عليه السلام:
(وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ الْمَوَدَّةَ).
بهذا يبيّن الإمام أن الرحم ليست مجرد قرابة دم، بل هي سياج أمانٍ اجتماعي وإنساني، تحفظ الفرد في أزماته وتعينه في محنه، ومن يتنكر لهذه الصلة يخسر شبكة الأمان التي أودعها الله في نظام المجتمع الإنساني.
صلة الرحم… عبادة ذات بعد إنساني شامل:
من خلال هذه النصوص يتبيّن أن صلة الرحم ليست عبادة فردية فحسب، بل هي فعل إصلاحٍ اجتماعي يعيد للإنسان توازنه الروحي ويمنع المجتمع من التفتت والأنانية. فهي عبادة تُنقّي القلب، وتُطهّر النفس من الحقد، وتُعيد بناء العلاقات على أسس الرحمة والتكافل.
وفي الختام:
من وصل رحمه وصبر على أذاهم، فقد وصل حبلاً بينه وبين الله، ومن قطع رحمه فقد قطع بركة عمره وسكينته. ولن يبلغ المؤمن كمال الإيمان حتى يرى في رحم النبي وأهل بيته امتداداً لنور الرحمة الإلهية التي تفيض خيراً على الدنيا والآخرة.
 
								

