قناة المعارف الفضائية | سراج العلم والفضيلة
فهرس: الحوراء الإنسية
آخر برامج من: الشيخ حسين الكوراني (ره)
آخر برامج في قناة المعارف الفضائية

الصبر أساس المقامات المعنوية (2) – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله

إنّ من أعظم دروس الاقتداء بالسيدة الزهراء عليها السلام هو درس الصبر على البلاء، لا بوصفه تحمّلًا قاسيًا للقدر، بل بوصفه مقامًا معنويًا راقيًا يدرك فيه المؤمن أن ما نزل به إنما هو نعمة من الله تعالى تُعيده إلى الطريق الذي خُلق لأجله.

فالإنسان في عالم المادة كثيرًا ما ينسى موطنه الحقيقي، ويتعلق بزخارف الدنيا ومكاسبها، حتى إذا ضاقت عليه السبل وشعر بوطأة البلاء، عاد إلى مولاه منكسرًا متذللًا.

وهذا هو سرّ البلاء في المنهج الإلهي؛ إذ يُوقظ في النفس غريزة العودة إلى الله، فينفض عنها غبار الغفلة ويطهّرها من شوائب الدنيا.

 

البلاء طريق العودة إلى الله تعالى:

حين يبتلي الله عبده، فهو لا يريد له العذاب، بل يريد له التطهير والسموّ.

وكما أنّ الأب الرحيم إذا رأى ابنه قد ضلّ طريقه يضيّق عليه ليعود، كذلك الربّ المتعال يبتلي عباده ليردّهم إلى رحمته.

ولذلك قال بعض العارفين: “لو علم المبتلى ما في البلاء من الرحمة لبكى شوقًا إليه قبل أن ينزل”.

إنّ الصبر على البلاء ليس مجرد تحمّل للمصيبة، بل هو إدراك عميق لرحمة الله في باطنها.

فمن يرى يد الله في البلاء لا يجزع، ومن يرى البلاء منقطعًا عن الحكمة الإلهية يعيش في ضيقٍ دائم.

وهنا تتجلّى مدرسة أهل البيت عليهم السلام التي علّمتنا كيف يكون البلاء بابًا للرضا، وكيف يتحول الألم إلى قربٍ من الله سبحانه.

 

رؤية الإمام الكاظم عليه السلام للبلاء:

وقد عبّر الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام عن هذه الحقيقة العرفانية العظيمة بقوله الشريف:

(لن تكونوا مؤمنين حتى تعدّوا البلاء نعمة، والرخاء مصيبة؛ ذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء).

هذه الكلمات تختصر فلسفة الإيمان كلّها؛ فالمؤمن الحقّ لا يفرح بالرخاء إلا بمقدار ما يقربه من الله، ولا يحزن على البلاء لأنه يعلم أن فيه تربيةً إلهيةً ورحمةً باطنة.

فالبلاء عنده ليس حرمانًا، بل اختبارٌ للصدق والإخلاص، يطهّر النفس من علائقها ويقوّي جذور الإيمان في القلب.

 

الصبر الجميل هو طريق الزهراء وزينب عليهما السلام:

إذا أردنا أن نرى تجسيدًا عمليًا لهذه الحقيقة، فلننظر إلى السيدة الزهراء عليها السلام التي صبرت على ما لم تصبر عليه نساء العالمين، فكانت قدوة الصابرين وميزان الإيمان.

ثم إلى السيدة زينب عليها السلام التي بلغت ذروة المقام حين وقفت أمام ابن زياد بعد واقعة كربلاء وقالت كلمتها الخالدة:

(ما رأيتُ إلّا جميلاً).

هذه العبارة ليست مجرد صبرٍ على المصيبة، بل وعيٌ عميقٌ بأن البلاء مظهرٌ من مظاهر الجمال الإلهي، وأنّ إرادة الله في عباده لا تخرج عن دائرة الخير المطلق.

ومن هنا، كان صبرهما نموذجًا يعلّمنا أن الابتلاء نعمة خفيّة ترفع المؤمن إلى مراتب النور.

 

كيف يرى المؤمن البلاء في حياته اليومية:

حين يُصاب الإنسان بمصيبةٍ في رزقه، أو في بدنه، أو بفقد عزيز، فإنّ أوّل ما ينبغي أن يستحضره هو أن الله اختار له هذا البلاء بعين الرحمة لا بعين الغضب.

فكل بلاءٍ هو رسالة إلهية شخصية تقول له: “عد إليّ، فقد ابتعدتَ عني”.

فإن هو صبر ورأى البلاء بنور الإيمان، تحوّلت محنته إلى مكسبٍ روحيٍّ، وأثمرت في قلبه رضًا وطمأنينة.

أما إن جهل سرّ الابتلاء وجزع منه، فقد ضيّع الفرصة، لأن الجزع يقطع الطريق على بركات البلاء.

 

من البلاء إلى القرب من الله

كلّ خطوةٍ في طريق الصبر تقرّب الإنسان من الله تعالى، لأن الصبر ليس موقفًا سلبيًا، بل عبادةٌ قلبية تثمر معرفةً وطمأنينةً وتسليمًا.

قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

وهذا الوعد العظيم يكشف أن مقام الصابرين فوق الحساب، لأنهم تجاوزوا حدود الدنيا إلى ساحة الرضا الإلهي، حيث لا يُقاس الثواب بالمقدار بل بالمقام.

 

الخاتمة

إنّ الاقتداء بالسيدة الزهراء عليها السلام في صبرها، والاقتداء بأئمة الهدى في رضاهم وتسليمهم، هو الطريق الأكيد لبلوغ المقامات المعنوية العليا.

فمن جعل الصبر زاده، والرضا رفيقه، رأى البلاء جمالًا، وعاش في رحمة الله حتى وهو في قلب المحنة.

فالصبر ليس أن لا تشكو، بل أن ترى في البلاء وجه الله، وأن توقن أنّ كل ما يأتي من المحبوب محبوب، وأنّ البلاء في ظاهره نار، وفي باطنه نور وهداية.

 

مواضيع مشابهة

أمناء الرّحمن – 26- معالم من حياة السيدة الزهراء ع

علاقة السيدة الزهراء (ع) بأبيها المصطفى (ص)