منهج دراسة صبر الزهراء ع – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله
إنّ الحديث عن السيدة الزهراء عليها السلام ليس حديثًا عن شخصية تاريخية فحسب، بل هو حديث عن حقيقة إيمانية ونموذج إنساني ومنهج تربوي رسمه الله تعالى ليكون ميزانًا للحق، ودليلًا للسالكين نحو الكمال. وحين ندرس صبر الزهراء عليها السلام، فإننا لا ندرس حالة وجدانية أو موقفًا عابرًا؛ بل نتأمل أساس المقامات المعنوية، ونتعمّق في سرّ من أسرار الولاية الإلهية التي تجلّت في حياتها القصيرة، لكن العميقة بآثارها ونتائجها.
وفي مدرسة أهل البيت عليهم السلام، يُعَد الصبر هو الركن الأول في بناء الإيمان، والبُعد الأخلاقي الذي يكشف جوهر النفس، ويُظهر معدنها عند الامتحان. ومن هنا تأتي ضرورة دراسة صبر الزهراء عليها السلام بمنهج دقيق، يربط بين النصوص والوقائع، وبين المقامات الروحية والغيبية.
موقع الصبر من الإيمان في المنظور الروائي:
إن الصبر عمود الإيمان ويؤكّد الإمام الصادق عليه السلام قاعدة كبرى في فهم حقيقة الإيمان بقوله:
(الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان).
وهذا النص—الذي كثيرًا ما كان الشيخ الكوراني رحمه الله يستشهد به—ليس مجرد تعريف، بل يكشف حقيقة وجودية:
الإيمان لا يُبنى إلا على الصبر، والصبر ليس حالة سلبية أو احتمالًا ميكانيكيًا للشدائد، بل هو تسليم لله، ووعي، ورسوخ، واستبصار.
وحين نطبّق هذا المفهوم على شخصية بحجم السيدة الزهراء عليها السلام، نكتشف أن صبرها ليس فضيلة من الفضائل، بل هو جوهر مقامها وسبب رفعتها.
دلالات الفقرة: (يا ممتحنة امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك)…
المفهوم العقائدي للامتحان:
هذه العبارة الواردة في الزيارة الشريفة تكشف عن سرّ غيبي في شخصية الزهراء عليها السلام. فالله سبحانه وتعالى امتحنها قبل خلقها، وهذا يعني:
أنّ مقامها مقام تكويني أعدّ مسبقًا لحمل أمانات ثقيلة.
أنّ صبرها لم يكن وليد ظرف أو حادثة، بل هو مقام وجودي.
فالامتحان هنا ليس اختبارًا لمعرفة المجهول—إذ إن الله يعلم السر وأخفى—بل امتحان لإظهار ما أعدّه الله في هذه النفس الطاهرة من طاقة على التحمل في سبيل حفظ الرسالة.
ولذلك قال بعض العلماء: إن صبر الزهراء عليها السلام مرتبط بحكمة إلهية تخصّ بقاء الإسلام، كما صبر النبي أيوب وصبر سيد الشهداء.
صبر الزهراء عليها السلام على ما علمت أنه سيقع
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله ابنته الزهراء بما سيجري عليها بعد رحيله، ومع ذلك: لم تتراجع، لم تتردد، لم تنكسر، بل واجهت كل ذلك بصدرٍ رحب وصبرٍ جميل.
هذا المعنى جوهري للصبر الذي يقول: أن الصبر على المصيبة بعد وقوعها ثواب، لكن الصبر على المصيبة قبل وقوعها مقــام.
وقد روى الفريقان أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال لفاطمة: (يا بُنيّة، إنك أول أهل بيتي لحوقًا بي… وإنهم سيظلمونك).
فلم يُنقل عنها جزع أو ضجر، بل ازدادت ثباتًا؛ لأنها ترى الدنيا ممرًا والدار الآخرة مقرًا.
إخبار النبي صلى الله عليه وآله بما سيقع عليها وعلى ذريتها (ع):
كانت السيدة الزهراء تعلم بمقتل الحسين عليه السلام، وبالشدائد التي ستواجه ذريتها، وقد ثبت في الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله أخبرها بذلك، بداية مما سيقع عليها وعلى أمير المؤمنين عليه السلام، ومروراً بكربلاء وسبي بنات الرسالة وحتى مصائب الإمام المهدي عجل الله فرجه وغربته في عصر غيبته.
وهذا أعلى مراتب الصبر: الصبر مع العلم بالمصير.
الوقائع التي وقعت على السيدة الزهراء بعد رحيل أبيها صلى الله عليه وآله
عند دراسة أحداث ما بعد النبي، نجد أن الزهراء عليها السلام لم تتعرّض لابتلاء واحد، بل لسلسلة من الابتلاءات:
كسر حرمة بيتها: ذلك البيت الذي قال الله فيه: {في بيوت أذن الله أن تُرفع}.
ومع ذلك لم تردّ الإساءة بالإساءة، بل وقفت موقفًا رساليًا يحفظ وحدة الأمة ولا يسمح بانشقاقها.
إسقاط جنينها المحسن: حدث جَلَل لكنها صبرت لأنها كانت ترى يد الغيب فوق كل شيء.
مصادرة حقها في فدك: ورغم أن فدك حق ثابت لها، لكنها اختارت أن تجعل مظلوميتها حجّة على التاريخ، لا وسيلة لصراع سياسي.
انكسار ضلعها وإيذاؤها جسديًا وروحيًا: لكنها واجهت ذلك بكل ثبات ووقفت تخطب خطبتها المعروفة دفاعًا عن الحق.
اغتصاب الخلافة من علي عليه السلام: وكان هذا من أعظم مصائبها؛ لأنها ترى ضياع مشروع الأمة.
ومع ذلك وقفت بصلابة، لا من موقع شخصي بل من موقع المسؤولية الشرعية.
خاتمة: المنهج الرباني في دراسة صبر الزهراء عليها السلام
الصبر عند الزهراء عليها السلام ليس مجرد تحمل للأذى، بل هو: بصيرة ترى الحق من خلال الألم، وعي لسنن الله في عباده، مقام يقين لا تهزّه العواصف، رسالة تحفظ الدين وتثبّت حاكمية الله في الأرض.
ومن هنا نفهم لماذا ربطت الزيارة الشريفة بين الامتحان الإلهي لشخصها وبين مقامها في الشفاعة والولاية.
فالزهراء عليها السلام صبرت لأنها كانت تعلم وظيفتها، وتعلم أنّ الابتلاء جزء من الطريق نحو الكمال.
ولذلك قال الإمام الكاظم عليه السلام: (لن تكونوا مؤمنين حتى تعدّوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة… لأن الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء).
وهذا هو جوهر منهج الزهراء عليها السلام.

