ماذا نعرف عن أعظم أمهات المؤمنين (2) – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله
حين يقرر الإسلام أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام أبوا هذه الأمة، فهو لا يقدّم توصيفًا بلاغيًا، بل يؤسّس لعلاقة روحية وأخلاقية عميقة بين القيادة الإلهية والأمة.
وحين تكون السيدة الزهراء عليها السلام أمّ أبيها، فهي أمٌّ لكل من انتسب إلى هذا الخط، أمومة رعاية وهداية لا أمومة نسب فقط.
ومن هنا، يصبح الانتقال طبيعيًا:
إذا كانت الزهراء أمّنا المعنوية، فإن السيدة خديجة الكبرى عليها السلام هي جدّتنا المعنوية.
والجدّة – في الوعي الإنساني – ليست مجرّد حلقة نسب، بل ملجأ حنان، وموضع ثقة، وذاكرة دفء، ومخزن حكمة.
والحفيد، حين تضيق به الدنيا، يعود إلى جدّته قبل غيرها، يشعر معها بالأمان غير المشروط.
هكذا ينبغي أن تكون علاقة المؤمن بالسيدة خديجة عليها السلام: علاقة قرب، وتعلّق، وتوسل، وشعور بالانتماء، لا علاقة ذكرى تاريخية بعيدة.
أمومة المعنى في مدرسة أهل البيت عليهم السلام:
أهل البيت عليهم السلام لم يتعاملوا مع السيدة خديجة كاسمٍ من الماضي، بل كهوية حاضرة في الوجدان الرسالي.
فهم يربطون أنفسهم بها، ويعرّفون الناس بها، وكأنهم يريدون أن يقولوا: من لا يعرف خديجة، لا يفهم هذا البيت.
ولهذا نلاحظ أمرًا لافتًا في النصوص والزيارات والخطب.
السيدة خديجة في لسان الأئمة عليهم السلام
في الزيارات: في زيارة الإمام الحسين عليه السلام نقرأ بوضوح: (السلام عليك يا ابن خديجة الكبرى)، وهذا التعبير ليس تعبيرًا عاطفيًا فقط، بل بيان مقام.
فالإمام المعصوم عليه السلام يُعرَّف عن سيد الشهداء عليه السلام بأمه الزهراء، وبأبيه علي، وبجده النبي، وبجدّته خديجة.
وكأن الرسالة تقول: هذا الامتداد الحسيني لا يُفهم دون خديجة، ولا يُكتمل نسب الطهر دون ذكرها.
في خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام في الشام
عندما وقف الإمام زين العابدين عليه السلام في مجلس يزيد، في ذروة القهر والظلم، لم يكتفِ بالتعريف بنفسه عبر علي وفاطمة والحسين، بل قال: (أنا ابن خديجة الكبرى).
ففي مجلسٍ يُراد له أن يمحو الذاكرة، أعاد الإمام بناء الوعي من جذوره، وذكر خديجة هنا ليس صدفة، بل رسالة سياسية وعقائدية: هذه المرأة التي حاربتها قريش، هي أصل هذا البيت، وهي شاهد صدق على زيف السلطة التي تتكلم باسم الإسلام
ما الذي تعنيه هذه الإشارات المتكررة؟
تكرار ذكر السيدة خديجة في كلام الأئمة عليهم السلام يكشف عن حقائق مهمّة: أن مقامها ليس تاريخيًا بل رساليًا، وأنها جزء من هوية أهل البيت لا مجرّد زوجة للنبي، وأن الارتباط بها معيار انتماء وجداني للخط المحمدي، وأن حبّها وتعظيمها امتداد لحبّ النبي والزهراء.
فضل السيدة خديجة في الأحاديث:
من الأمور المهمّة التي تُظهر عظمة السيدة خديجة عليها السلام أن فضلها ليس محل خلاف مذهبي، بل هو من المسلّمات بين المسلمين.
من أفضل نساء العالمين
ورد في الأحاديث المتفق عليها أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (أفضلُ نساءِ أهلِ الجنّةِ أربع: خديجةُ بنتُ خويلد، وفاطمةُ بنتُ محمّد، ومريمُ بنتُ عمران، وآسية بنتُ مزاحم امرأةُ فرعون).
وهذا الحديث روي بألفاظ متعددة في مصادر الفريقين، ويضع خديجة في مصافّ النساء الكاملات في التاريخ الإلهي.
سلام الله عليها
ورد أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: (يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني).
وهذا مقام لا يُعطى إلا لصفوة الصفوة، أن يُبلّغ الإنسان سلامًا مباشرًا من الله.
تميّزها على سائر زوجات النبي
ثبت في الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله كان يكثر من ذكرها بعد وفاتها، حتى قيل له في ذلك، فقال بما مضمونه: (إنها آمنت بي حين كفر الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس)
هذا التمييز لا يُفهم إلا إذا أدركنا أن خديجة لم تكن زوجة فقط، بل شريكة رسالة.
لماذا نحتاج اليوم إلى إحياء العلاقة مع السيدة خديجة؟
في زمن القسوة الروحية، والاضطراب الداخلي، يحتاج المؤمن إلى نماذج: لا تبحث عن الشهرة، لا تطلب الظهور، لا تساوم على الحق، وتُقدّم كل شيء بصمت.
وهذه الصفات مجتمعة نجدها في السيدة خديجة عليها السلام.
وفي الختام:
السيدة خديجة الكبرى عليها السلام ليست صفحة من الماضي، بل جذراً حيًّا في شجرة الإيمان.
هي الجدّة المعنوية التي نعود إليها حين نريد أن نفهم معنى الثبات، ومعنى النصرة، ومعنى الحبّ الصادق لله ورسوله.
وحين يذكرها الأئمة بأسمائهم وخطبهم وزياراتهم، فهم يعلّموننا أن علاقتنا بها ليست خيارًا ثقافيًا، بل حاجة روحية.
فطوبى لمن عرف قدرها، وتعلّق بها، وجعلها حاضرة في قلبه ودعائه،
لأن من تعلّق بأصل النور… لا يضلّ الطريق.

