حقيقة العبادة – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله
ما هي حقيقة العبادة؟
إن حقيقة العبادة تتمثل بالامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه في المقام الأول، ثم الانتقال إلى ترك المكروهات والإتيان بالمستحبات، أما ما كان دون ذلك فليس عبادة ولا يعد من العبادة الحقيقية.
وإن حقيقة العبادة تتجلى في قادة المجتمع الحقيقيين الذين لا يتركون العبادة بحجة انشغالهم بأمور الدولة وإدارة شؤونها، ولنا في أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليه السلام الذي كان أتقى وأعبد وأزهد من خلق الله بعد النبي صلى الله عليه وآله خير أسوة وخير قدوة لنا في ذلك، فرغم أنه كان يدير إحدى أعظم الإمبراطوريات على مر التاريخ فقد كان يعيش حياة العباد الزهاد، ولم يكن ذلك يناقض أعماله في إدارة شؤون البلاد أو يزاحمها.
بل إنه كلما زاد تدين الشخص وكلما تعرف إلى حقيقة العبادة كان قائدا أعظم وأكثر حنكة لأنه بطبيعة الحال أكثر اتصالا بخالق الوجود ومدبر الأمور، وأي شيء يقف في وجه من كان متصلا ومستعينا بالله الخالق الجبار؟
ومن أكثر من عرف حقيقة العبادة ووصل مستويات رفيعة من العبادة إمامنا موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام.
وهناك قصة يرويها أحد المتصوفة العباد وهو شقيق بن إبراهيم البلخي، حيث يروي أنه كان ذات يوم ذاهبا إلى الحج قاصدا بيت الله الحرام سيرا على الأقدام، وكان قد ذهب لوحده ولم يكن له رفيق درب.
وفي الطريق شاهد رجلا يسير نفس المسير فأراد أن يتسامر معه ويجعله رفيق دربه.
وكان قد تعرف إليه بعد أن كان قد وصل إلى القادسية، فرأى رجلا حدث السن شديد السمرة كما يصفه الراوي تبدو عليه سيماء العبادة وهناك أثر للسجود على جبهته.
وعندما رأى شقيق البلخي ذلك الشاب ظن أنه من المتصوفة مثله وظن أنه من الذين يتكلون على الآخرين ويريد أن يكون كلا وعبئا عليهم، وذهب لتوبيخه.
وعندما دنا شقيق منه ناداه ذلك الشاب باسمه قائلا: يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا، وقرأ الآية ثم تركه ومضى.
تعجب البلخي من ذلك وأيقن أن هذا الكلام لا يقوله إلا ولي من أولياء الله، فأراد العود وأخذ الحل منه وطلب السماح، لكنه لم يدركه إلى أن وصلوا إلى واقصة حيث رآه هناك يركع ويسجد ودموعه تنهال على خديه وهو على الرمال.
وعندما دنا منه يريد أخذ الحل منه قال له: يا شقيق وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، ثم غاب مجددا عن عينه فلم يره.
ثم وصلوا إلى منزل يقال له زبالة فوجده على بئر يدعو الله وبيده ركوة، وما إن أتم دعاءه حتى فاض البئر وملأ الركوة وتوضأ فأسبغ الوضوء وصلى ركعات ثم ذهب إلى كثيب رمل أبيض، فكان يطرح الرمل في الركوة ويحركه ثم يشرب.
تعجب البلخي من ذلك، فدنا منه وطلب أن يطعمه مما يأكل، فأعطاه منه فإذا هو سويق وسكر، وقال البلخي لم أر طعاما أطيب منه ولا أزكى رائحة، وشبعت وريت وظللت أياما لا أشتهي الطعام ولا الشراب.
ثم لم ير البلخي ذلك الفتى إلى أن وصل مكة وأتم حجه، فإذا به يراه مصليا راكعا ساجدا عند بئر زمزم، ثم رآه وقد اجتمع الناس حوله كل يأتيه بمسألته فيجيب عنها، فسأل البلخي الناس: من هذا الفتى؟ فأجيب: هذا أبو إبراهيم، عالم آل محمد، قال: ومن أبو إبراهيم؟ قيل له: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام. فقال البلخي: عجبت أن توجد هذه الشواهد إلا في هذه الذرية.
ويعرف الإمام الكاظم عليه السلام البخل قائلا: البخيل من بخل بما افترض الله، فالبخيل هو من لم يؤد ما عليه من واجبات أمر الله بها كالصلاة والصوم والزكاة وما إلى ذلك. كما عرف الكرم والسخاء بأنه حسن الخلق في كنف الله.
ويحثنا إمامنا الكاظم عليه السلام على قول الحق ولو كان فيه هلاكنا لأنه في الواقع فيه نجاتنا، فقول الحق دائما ما ينجينا، والنجاة الحقيقية هي النجاة يوم القيامة، وأمرنا أيضا بأن نترك الباطل ولو كان فيه نجاتنا فإن فيه هلاكنا في الواقع.