البصيرة وأهل البصائر – الشيخ حسين الكوراني رحمه الله
رغم أنّ في النفس شيئاً من أن يصدر هذا الوصف من أعمى البصيرة، الموغِل في العداوة والضّعة، ولكن الله تعالى قد يجري نشر فضيلة وليّه على لسان عدوّه، ثم إنّ ابن الحجّاج، وإن كان قد وشجتْ على الغدر عروقه، إلا أنّه كان حتّى ما قبل شهر من الزمن، من ثوابت مجلس الشهيد هانئ بن عروة، وكان لمثل هذا المصطلح في ذلك المجلس من قوّة الحضور بما يكفي أن يتلقّفه ولو ببّغاء، ثم إنّ هذا التعبير، وتعبير: «فقد اخضرّ الجَناب، وأينعتِ الثّمار، وطمّت الجمام» من وادٍ واحد، فلماذا نثبت ذاك، وننفي هذا؟
والبصيرة هي رؤية العقل والقلب للأمور كما هي، وعلى حقيقتها.
ويقوي صدور هذا التعبير من ابن الحجّاج، أنّ تعبير «البصائر» قد استعمل بنفس معناه في النصوص الجاهلية، وقد عزّز القرآن الكريم هذا المعنى إلى حدّ جعل «أهل البصائر» مصطلحاً قرآنياً بارزاً كان متداولاً في صدر الإسلام، بل وطيلة القرن الأول الهجريّ قطعاً، وعلى نطاق واسع، وكان يستعمله الصالح والطالح نتيجة الجوّ الثقافيّ العام، وسعة التداول والانتشار.
ومن الواضح أنّ من لوازم البصيرة، الثبات على الموقف مهما كان الثمن، فالبصيرة واليقين متلازمان، وهنا يكمن الربط بين التحذير الكوفيّ من أصحاب سيّد الشهداء باعتبار أنّهم أهل البصائر.
ولا بدّ أن نستوضح أنّ من دلالات هذا المصطلح في الوسط الذي يعيش مفاهيم القرآن الكريم أو تستجيب حركته الثقافيّة التلقائيّة لهُداه، أنّ مصاديقه هم القيمة العليا في المجتمع، والصفوة التي تنحني أمامها كلّ الهامات.
في ضوء ذلك يمكننا أن نقارب أحد أبرز الملامح الحقيقيّة لطبيعة المواجهة في كربلاء، وكيف كان معسكر الإمام تجسيد رسول الله والبررة من أصحابه، وكيف كان معسكر الكفر ركاماً بلا روح، وغثاءً بلا صفوة.
وكما يقود الشيطان خطى الفرد العارف بالحقّ في دروب التمرّد عليه، والطغيان، والتنكّر لمعرفته، عبوديةً للهوى والنزوات، فإنّه يقود خطى الجمع كذلك، مع فارقٍ نوعيٍّ في الشراسة والإسفاف ينشأ من استقواء كلّ فرد بغيره، فعبادة الهوى وعبادة الناس من حندسٍ واحد، لتكون النتيجة أنّ المقابل الطبيعي لأهل البصائر، هم جُند إبليس، الذين يستجيبون لهتاف الشيطان الغوي.